الخميس، 9 فبراير 2017

الدين بين الايدولوجيا والانطولوجيا




الدين بين الايدولوجيا والانطولوجيا

 نظرة في كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي




للمرة الأولى أقرأ فيها للمفكر العراقي الدكتور عبدالجبار الرفاعي وأتعرف فيها على فكره، كان هذا عن طريق كتابه المهم الموسوم بـ "الدين والظمأ الانطولوجي" والذي أظنه ضروري لكل مثقف مهتم بالشأن الديني، والكتاب صادر بطبعته الأولى لعام 2016 عن مركز دراسات فلسفة الدين ودار التنوير للطباعة والنشر.

الكتاب هو مجموعة مقالات وأبحاث ومقابلات ضمنها الدكتور في كتاب واحد جمعها موضوع الظمأ الانطولوجي حسب اصطلاحه، وهو ما يعرفه بأنه ظمأ الإنسان للمقدس والحنين للوجود، حيث أن وجود الإنسان محتاج إلى ما يثريه ويمنحه المعنى، الأمر الذي يراه الكاتب متوفرا في الدين حصرا.

فلا الفنون ولا الآدب ولا المعارف يمكنها أن تروي ظمأ الإنسان الملح والفطري ولا شيء يمنحه الطمأنينة والسعادة سوى الدين، ولكن أي دين هذا؟

يتفرق الكتاب على سبعة فصول ومجموع صفحاته مائتين واثنين وسبعين صفحة.

في الفصل الأول: بعنوان نسيان الذات، يطرح الكتاب قضية الذات البشرية المنسية، الذات الخاصة بكل إنسان خلقه الله المتفردة في خصائصها الذاتية، هذه الذات التي دأبت الجماعات والأحزاب على تنميطها واستعبادها وإذابتها عبر قسرها على قوالب جاهزة، وعمليات التنميط هذه تجري عبر التربية والتثقيف والمنابر الإعلامية حتى تستلب الذات وتصبح جزءً من صورة كبيرة كل عناصرها متشابهة ومتماثلة، ينصهر الفرد في الجماعة حتى ينسى ذاته ويهمل حياته الخاصة التي تصبح عديمة القيمة، ما يهم الجماعة هو سلوك الفرد الخارجي أما باطنه فغير مهم مما يحول الإنسان إلى (شخصية مستعارة) تنعدم فيه شخصيته الحقيقية الأصلية وتحل محلها شخصية نمطية يسودها الأحكام الجاهزة والعصبية الفاشية.

في ظل هذا الاستلاب للذات البشرية كيف يمكن للإنسان الإيمان أو اللإيمان ذاتيا؟ إذ الإيمان خيار شخصي وحالة ذاتية لا يتحقق بالنيابة، وبغياب الذات يصبح الدين سلوكا خارجيا لا يعبر عن حقيقة ذات الإنسان الأصلية.



الفصل الثاني: نسيان الإنسان، يحاول د.عبدالجبار هنا أن يسطر شيئا من سيرته الذاتية مركزا على البيئة الأصلية التي جاء منها راسما صورة خشنة عن حياة الريف العراقي منتصف القرن الماضي مضمنا تلك الذكريات بعضا من التحليل الاجتماعي لبيئته وكيف أسهمت نشأته في بناء شخصيته المتدينة بطبعها، وذاكرة اللامكان التي اكتسبها بسبب حالة التشرد التي عاشها، وصولا إلى ذكريات سنوات الدراسة في المدرسة الأولى إلى التحاقه بالحوزة النجفية وانضمامه لحزب الدعوة بشكل مقتضب مبررا ذلك بالبعد عن نبش آلام الماضي ورغبة في تجاوزها بهدوء وسلام.

يصل الكاتب لنتيجة أن الدين بالنسبة للكائن البشري مكون انطولوجي يرثه من أبيه وأمه كما يرث لون بشرته وصفاته الجسدية، حتى عندما يتحول إلى دين آخر فإنه يقلب الدين الجديد ويعلبه بدينه الأصلي، كما حال اللغة الأم فمهما تعلم الإنسان لغة أخرى يبقى مبرمجا على ترجمتها وإعادتها للغته الأصلية.

وفي جزء مهم من هذا الفصل يفرد الكاتب صفحات عن أهمية التحلي بالغفران والمحبة كمرادف الإيمان والدين.

أما الفصل الثالث : المثقف علي شريعتي.. يعد من أهم فصول الكتاب.

حيث يُحمل الكاتب بعض المثقفين من أمثال علي شريعتي مسؤولية ترحيل الدين من الانطولوجيا إلى الأيديولوجيا، أما سبب اهتمامه بشريعتي تحديدا فلإن مقولاته بدأت تغزو الوسط الثقافي العربي بعدما انتهى الإيرانيون من نقدها وتجاوزها.

يلخص الكاتب اتجاهات التفكير الديني في إيران الحديثة كالتالي :

أ- الاتجاه التقليدي: 

وهو المسيطر على معظم الحوزات الدينية في إيران حتى اليوم.

ب- الاتجاه الإحيائي : 

ويتفرع إلى تيارين: 

1- فلسفي عرفاني : تأسس على يد السيد الطباطبائي صاحب الميزان

ب- المدرسة التفكيكية : 

وهي تدعو لإحياء التفكير النصوصي الحديثي وتناهض التفكير العقلاني، بما يشبه عودة للتيار الإخباري، أبرز رموزه السيد مهدي الآصفي

ج- الاتجاه التجديدي:

وينقسم إلى تيارات عدة منها:

1- تيار التفسير العلمي: يدعو لتفسير القرآن على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة.

2- تيار الهوية (الذاتية): يدعو للعودة للهوية الإسلامية وغربلة التراث من المؤثرات الطارئة عليه، تمثل في الفيلسوف فرديد ، وانعكس في نتاج علي شريعتي

3- تيار الماركسية الإسلامية: هو تيار نشط في الستينات والسبعينات، حاول إعادة صياغة التاريخ الإسلامي وفق النظرية الماركسية والاشتراكية.

وانعكس هذا الفكر في جماعات سياسية متعددة منها منظمة مجاهدي خلق.

4- تيار معرفي عابر للأيدولوجيا: ويتجه هذا التيار لتفسير الدين على فلسفة العلم والهرمنيوطيقا والعلوم الاجتماعية، وأبرز رواده سروش وشبستري وملكيان.

علي شريعتي:

يضع الكاتب نبذة موجزة عن سيرة علي شريعتي، إلا أنه يشير إلى ثلاث نقاط رئيسية

الأولى:  الشائع أن شريعتي درس وتخصص في علم اجتماع الأديان إلا أنه لم يجد أي وثائق تثبت هذه الدعوة، لذا فهو يشكك في ذلك.

الثانية: يشكك الكاتب في ما يشاع أن شريعتي مات مقتولا على يد مخابرات الشاه، ويرجح بأنه توفي وفاة طبيعية.

الثالثة: يتهم الكاتب شريعتي بسطحية إطلاعه على الفلسفة الغربية وتطويعه لمعارفه لتخدمه ايدولوجيته إلى جانب ضعف تكوينه الديني ومعرفة الدينية الإسلامية.

يشير الكاتب إلى دور شريعتي الكبير في أدلجة الدين وإعادة قراءته وفق ايدولوجية يؤمن بها، مما ساهم بتكوين ايدولوجية دينية جزمية همها تنميط وتدجين ونمذجة الشخص، فأيدولوجية شريعتي تحلم بالعدالة الاجتماعية لكنها تهمش الحرية ولا تقبل الحداثة الغربية وما يرتبط بها من ديمقراطية وحقوق بشر بوصفها ملتبسة بالاستعمار والرأسمالية، ومن ناحية أخرى أعاد شريعتي قراءة التاريخ الإسلامي والشخصيات التاريخية وفق ايدولوجية.

وتحت عنوان فرعي (الحساسية السياسية والحساسية الفلسفية) يتهم الكاتب شريعتي وكل من سار على نهجة باحتقار الفلسفة وتهميشها لأنها تفضح دعواهم الايدولوجية حيث يعتبر أن "خمسمائة رجل كابن سينا لا أثر لهم في المجتمع بينما رجل كأبي ذر يمكنه أن يحدث تحولا لقرن كامل".

سعى شريعتي لبناء رؤية دنيوية للدين اصطلح عليها (البروتستانتية الإسلامية)عبر تحويل كل ما هو ديني إلى دنيوي وكل ما هو دنيوي إلى ديني، ويعتبر أن كل ماهو متداول في عالم الإسلام منذ الغزو المغولي هو كاثوليكية إسلامية داعيا للقضاء عليها، ويمضي شريعتي بثنائياته الكثيرة فيقسم الإسلام السني إلى إسلام محمدي وآخر أموي، والتشيع إلى تشيع علوي وآخر صفوي، معتبرا أن الإسلام هو التسنن المحمدي والتشيع العلوي.

دعوة البروتستانتية الإسلامية التي اشترك شريعتي فيها مع جماعة الإخوان المسلمين هي دعوة أدلجة الدين والتراث بحسب الكاتب، وفي الوقت الذي أنجزت البروتستانتية المسيحية تحرير العلم والدولة من الدين وسطوة الكنيسة، قامت البروتستانتية الإسلامية بتوسيع حدود الدين ليشمل كل مناحي الدنيا والعلم والدولة.

إن وعود البروتستانتية الإسلامية لم تنجز بل انتهت إلى نتائج عكسية وأفضت إلى عبادة الإنسان للأيدولوجية واستلابها لروحه وقلبه وعقله وإقحامه في وعود خلاصية موهومة.

الفصل الرابع :التجربة الدينية والظمأ الانطولوجي للمقدس

في هذا الفصل الهام يشرح الكاتب مفهوم الظمأ الانطولوجي حيث هو افتقار الشخص البشري إلى ما يثري وجوده، ويكرس كينونته، ويمنحه وقودا لحياته، ويكشف له سر الحياة ويجعله قادرا على التغلب على مشكلة الوجود البشري.

والتجربة الدينية بحسب الكاتب هي البعد الانطولوجي للدين التي يمكنها معالجة هذا الظمأ، وهذا الإرواء يجب أن يكون كتجربة ذاتية فردية جوانية، ويفرق الكاتب بين هذه الحالة والحالة الصوفية معتبرا أن ليس كل متصوف صاحب تجربة دينية فقد يكون المتصوف خاويا روحيا إذا ما تحول التصوف إلى التصوف الطرقي السلوكي الذي هو تصوف الدراويش والتكايا والزوايا.

مولانا جلال الدين الرومي:

عن جلال الدين الرومي يفرد الكاتب عنوانا جانبيا ليعالج ما يعتبره حالة من التحول الذي شهدته شخصية الرومي التاريخية إلى الرومي الميثولوجي كشخصية خارقة استثنائية بخلاف الشخصية الحقيقية البشرية داعيا إلى استلهام العبر من تراثه الروحي.

إلى جانب التصوف الطرقي يشير الكاتب إلى التصوف المعرفي: وهو تصوف عقلي خرج على الانساق المعرفية التراثية وانتج قراءة حية متوالدة ذات افق رحب معيدا الاعتبار للذات المستلبة وانشغل بإرواء ظمأ الروح.

رؤيتان للعالم: 

الرؤية الأفقية : وهي رؤية المتصوفة والعرفاء التي ترى في الصلة بالله وصال حبيبين.

الرؤية العمودية: هي رؤية المتكلمين: ترى في علاقة الإنسان بالله علاقة عمودية يخضع فيها العبد ويذل لإله متسلط منتقم.

وعن الإيمان والتدين يدعو الكاتب لضرورة التفرقة بين الدين والتدين-الدين والحياة الروحية- الدين والإيمان، داعيا إلى الخلاص من تديين الدنيوي أي أن الدين لا يشمل كل شيء في الحياة، إذ لا يجب أن يختلط الدين بالعلم والأدب والفلسفة والفن ..الخ فالعلم علم وليس دين، والأدب أدب وليس دين وهكذا، فما يشوه الدين في مجتمعاتنا هو اختلاط الدين بكل شيء وعليه يجب أن يعود الدين لحقله الطبيعي في بناء الحياة الروحية والأخلاقية للبشر، أما ما ينجزه العقل والتجربة البشرية فلا ضرورة لإقحامه في الدين أو إقحام الدين فيه.

إن جوهر الدين يتمحور حول إرواء الظمأ الانطولوجي للشخص البشري وعندما يرتوي يكف الدين عن أن يكون أداة للصراع على الثروة والقوة والسلطة، كما تفعل معظم الجماعات الإسلامية التي سرقت الدنيا باسم الآخرة، والأرض باسم السماء، والإنسان باسم الله.

دين الايدولوجيا ودين الانطولوجيا:

المتكلم هو فيلسوف دين الايدلوجيا، بمعنى أنه يصوغ رؤية لله والإنسان والعالم وفهما للدين، والجماعات الإسلامية تنسج على رؤية المتكلم شباكاها لتصنع دين الايدولوجيا، هذا الدين الذي يستخدم الإنسان ويسخر حياته وطاقته بينما دين الانطولوجيا يخدم الإنسان ويمنح عقله حرية التفكير ولا يجبره على تكرار نماذج تاريخيه أو أن يعيش نيابة عن غيره.

دين الايدولوجيا لا يبني حياة روحية، يميت الروح والقلب والضمير ويفسد ولا يصلح، بينما دين الانطولوجيا يصنع حياة روحية وأخلاقية ويغني الحياة بالهدوء والسكينة والسلام.

الفصل الخامس: أية دولة بلا حياة روحية وأخلاقية

وهو عبارة عن ورقة قدمها الكاتب للمؤتمر الدولي حول الأديان والقيم السياسية – لبنان 2014

الفصل السادس: لا خلاص إلا بالخلاص من أدلجة الدين

وهو عبارة حوار مع الصحافية اللبنانية رحيل دندش بأسئلة منوعة 

الفصل السابع: تحديث الفكر الديني

وهو عبارة حوار لمجلة يتفكرون مع الكاتب المغربي مولاي أحمد صابر بأسئلة منوعة 
---
* نشر هذا المقال في موقع المطرفي ،، الرابط 
http://www.almoterfy.com/site/index.php?act=showNews&module=news&id=7942




الاثنين، 21 نوفمبر 2016

ماركس .. وصراعات الأحساء



ماركس .. وصراعات الأحساء










حاول الفيلسوف كارل ماركس عبر نظريته الاجتماعية تفسير حقيقة الصراع الاجتماعي مرجعا إياه للاختلافات الطبقية داخل المجتمع مما يؤدي لصراع بين الطبقات الثرية (المالكة لعناصر الإنتاج) والطبقات الفقيرة التي تتحكم بها الطبقة الأعلى، فالطبقة الثرية تحاول الحفاظ على وضعها الاجتماعي الذي ورثته عن أسلافها بينما يحاول أبناء الطبقة الفقيرة الصعود ومزاحمة الطبقة الثرية ومن هنا ينتج الصراع الذي يأخذ أشكالا عدة حسب طبيعة المجتمع فقد ينتج الصراع نوعا من العنصرية وقد ينتهي بثورة دموية. 

قد تكون المقدمة حول نظرية ماركس للصراع الطبقي تبسيطة أكثر من اللازم إذ أنها من النظريات المعقدة والتي شهدت تطويرا مستمرا متخذا أشكالا وصورا عدة خصوصا بعدما تحولت إلى نماذج حية تحكم دولا كبرى. 

لاقت نظرية ماركس الكثير من النقد في الأوساط العلمية، ولكنها استطاعت من ناحية أخرى أن تقدم أمثلة ذات دلالة، فعلى سبيل المثال الانتقال الكبير لأوربا من العصور الوسيطة إلى الحداثة كان له أسباب اجتماعية ذات طابع اتسمت بالصراع المادي بشكل عميق، أبرزها اضمحلال طبقة الإقطاع- النبلاء وبروز طبقة البرجوازيين بعدما شهدت الطبقتين صراعا طويلا. 

كما أن التحولات من هذا النوع شهدته غير دولة من دول العالم، ولو حاولنا مقاربة التحولات في مجتمعنا الأحسائي وما ناله من صراع على خلفية طبقية فإنه يمكن أن نجد نماذج ذات دلالة. 

هناك شواهد كثيرة تتحدث عن وجود طبقة مهمة من الإقطاعيين أصحاب الأراضي قبل نشوء الدولة الحديثة وقد كان لهم صولة على الأهالي الذين يمثلون طبقة البروليتاريا المسحوقة، وعندما امتدت أيدي الدولة الحديثة إلى نواحي الحياة ودفعت بتشكل الطبقة الوسطى عن طريق توفير التعليم العام والوظائف المدينة بعيدا عن هيمنة ملاك الأراضي عرفت المنطقة تحولا عميقا وصراعا اجتماعيا تمظهر في صور متعددة منها إعادة نسج التحالفات الاجتماعية والاتصال بجهاز الدولة من أجل تثبيت الامتيازات القديمة، كما ظهرت برجوازيات جديدة انتفعت من عجلة التنمية وحاولت عقد تحالفات مع مجموعات دينية لتعزيز مكانتها الجديدة. 

ينظر الماركسي عبر التاريخ أن أي تحول أو تغير اقتصادي في أي دولة يصحبه بالضرورة صراع اجتماعي فالطبقة العليا تسعى لتعزيز تفوقها بينما تسعى الطبقات الأدنى للصعود درجة في السلم الاجتماعي مستغلة الظروف المواتية، وقد تشهد ذات الطبقة صراعا داخليا لإعادة توزيع حصص المكاسب بين أفراد الطبقة الواحدة، وفي كل الحالات فإن أطراف الصراع الطبقي لا تتورع عن استخدام كافة الأسلحة الممكنة والسلاح الديني يعد من اكثرها استخداما في ظل مجتمعات تقليدية محافظة. 

وبالرغم من أن العامل المادي لا يمكن اعتباره العامل الوحيد الفاعل والمؤثر في الصراع الاجتماعي، إلا أن إنكاره والتقليل من شأنه هو قصور نظر قد تعبر عن مثالية مفرطة. وعندما تندلع بعض الصراعات في الأحساء كما بقية مناطق المملكة والعالم في ظل تحولات وتحورات اقتصادية سريعة وعنيفة أحيانا فإننا لسنا استثناءا من الجدلية التاريخية، ويبقى على المثقفين والواعين الحذر من أن يكونوا أعوادا صغيرة يتم إحراقها من اجل أن ينعم بعض البرجوازيين بالدفئ ورغد العيش.








الخميس، 24 ديسمبر 2015

بين القراءة والكتابة


بين القراءة والكتابة

Image result for ‫بين القراءة والكتابة‬‎


ازدواجية فعلي القراءة والكتابة كانت واحدة من المعضلات التي شغلت بالي طويلا، فهل على الإنسان أن يحصر اهتمامه بالقراءة ولا يقرب الكتابة والتأليف إلا عرضاً، وهل يجب عليه اعتبار القراءة الهم الأول ولا يجدر به أن يلق بالا للكتابة؟ أم أن التأليف والكتابة هي خلاصة القراءة وثمرتها؟

كلا الرأيين وجيه وجدير بالإهتمام، فهناك من يرى أن الفعل الأساسي للإنسان خصوصا المثقف هو القراءة، فعليه أن يكون همه الأول تأسيس ذاته معرفياً قبل أن يستعجل كتابة مقالات أو مؤلفات، فالاستعجال في كثير من الأحيان ما يكون له عواقب سلبية، وقد عاصرنا بعضها، يحث يقوم مثقف شاب بكتابة مقال أو حتى تغريدة وهي مازلت خاطرة في ذهنه أو مجرد فكرة جنينية لم يحن أوان وضعها، فيصدم بردود قاسية وناقدة، فيتحول الكاتب إلى خانة الدفاع عن هذه الفكرة أو العبارة التي قد لا يكون هو ذاته مقتنعا بها تماما، فيكرس جهده وبحثه وقراءته لإثباتها والرد على خصومه بالمزيد من العبارات والمقالات، وتدريجيا يخسر المثقف أهم ما يميزه عن غيره، يخسر كنزه الثمين الذي يعطيه كل البريق والتفرد، فهو يخسر مرونته الفكرية وعقله المتفتح لكل فكرة جديدة، ويغدو مؤدلجاً لفكرة ما أو عقيدة ما بعد أن كان تنويرا متمردا.

لكن من جهة أخرى فإن فعل القراءة والكتابة أقرب شيء بفعل الزراعة والحصاد، فكما أن الفلاح يزرع ليحصد فإن المثقف يقرأ ليكتب، والكتابات الجيد والمميزة هي بالتأكيد نتاج قراءة جيدة ومميزة، لذا فمن الطبيعي أن يكتب القارئ الجيد روائع الأفكار، وعليه فإن الإبتعاد عن الكتابة هو قتل لتلك الروح المبدعة التي ولدت يوماً على صفحات كتاب ذات مساء، كما أن فعل الكتابة الراقية هو فعل تراكمي ينمو مع الإنسان بالممارسة والتجربة وتضمر بالتجاهل والتغافل، أضف إلى هذا كله أن الأفكار أنما تزدهر وتصقل بالكتابة والمداورة وبالنقد والتصويب.

حملت خواطري ولجأت لواحد من أساتذتي الذين أثق بهم وبتجربتهم في الحياة، وضعت همومي بين يديه وطلب رأيه لأسترشد به، فكانت كلماته كبلسم على الجرح.

قال لي الأستاذ: إن المثقف الجيد قارئ فذ وكاتب حصيف، فلا تهمل الكتابة ولكن لا تسع خلفها، بمعنى أن الكتابة لا يجب أن تكون همك وأولى أولوياتك فكثير من المفكرين لم يؤلف سوى كتاب أو أثنين وربما لم يؤلف مطلقاً، ولكن لا يجب تهملها وتلغيها من مسيرتك، كما يجب أن تتنبه إلى أمر هام جدا، فحين تريد أن تكتب عليك أن تعي أن الكلمة مسؤولية لذا يجب أن تكون صادقاً ومخلصاً لمن سيقرأ حروفك، وأيضاً لا تحرص على أن تكون واثقاً فدع الباب مفتوحاً للتراجع حلما يثبت لك خطأ الرأي الذي تؤمن به.


ختم أستاذي كلامه بجملة وبها أختم، قال : إقرأ ثم إقرأ ثم إقرأ ثم اكتب.

الأربعاء، 11 نوفمبر 2015

رواية "ساق البامبو"

رواية "ساق البامبو"

Image result for ‫ساق البامبو‬‎


للتو انتهيت من قراءة رواية ساق البامبو للروائي الكويتي سعود السنعوسي، وهي واحدة من أجمل الروايات التي كتبها، الرواية التي تقع في نحو أربعمائة صفحة صادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، صدرت طبعها الأولى سنة 2012م، وحصلت على جائزة الرواية العالمية عام 2013.
اسم الرواية التي اتخذها الكاتب نوع من النباتات الشائعة في الفلبين حيث يتميز البامبو بأنه ذو ساق رفيعة وأجوف من الداخل.

تحكي الرواية على لسان بطلها عيسى الطاروف أو هوزيه ميندوزا معاناة شاب ولد لأب كويتي وأم فلبينية كانت تعمل خادمة في منزل أسرة كويتية تزوج ابنها من الخادمة زواجا عرفيا بدون علم أهله، ولم حملت الخادمة قامت العائلة بطردهما، الشاب راشد الطاروف لم يتخلى عن زوجته بل وثق الزواج وظن أن عائلته ستتراجع حلما يرزق بطفل، ولكنه طرد مرة أخرى مع طفله ما أضطره إلى تطليق الخادمة بعد إرجاعها إلى بلدها مع وعد بعدم التخلي عن ابنه والعمل على عودته إلى الكويت ليعيش معه عندما تتهيأ الظروف المناسبة.

يأتي الاحتلال العراقي للكويت فيقع راشد أسيرا ثم بعد عقد من الزمن يتم الكشف عن مصير الأسرى الكويتيين حيث تم استرداد رفاته، وهنا يظهر صديقه غسان الذين يعمل على إعادة عيسى إلى الكويت ويسعى لنزع اعتراف من جدته غنيمة وعماته عواطف ونورية وهند وأخته خولة، تتباين آراء الأسرة حول مصير عيسى الذين يعيش بصورة أولية في ملحق منزل العائلة دون الكشف عن هويته الحقيقية، ولكنه يتعرض للإبعاد بعدما أثار وجوده الريبة.

النهاية ليست سعيدة لعيسى حيث يمر بأحداث تؤكد رفض المجتمع الكويتي له لأنه بوجه (فلبيني) ورثه عن أمه وإن كان يحمل الأوراق الثبوتية الكويتية، وبعدما يستشعر الغربة في مجتمع لا يقبل به، وعائلة ترفض الاعتراف به يقرر العودة إلى الفلبين وهو نص كويتي ونصف فلبيني، نصف مسيحية ونصف مسلم، وذو اسمين عيسى وهوزيه.

إلى جانب العديد من الأحداث الدرامية المشوقة والأسلوب السلس يعالج الكاتب عدد من القضايا الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الخليجي بشكل عام والمجتمع الكويتي بشكل خاص، قضايا مثل سلطة المجتمع على أفراده، رفض الآخر، مشاكل العمالة الأجنبية، البدون،الأديان وأتباعها، هوية أبناء الزواج بين مجتمعين مختلفين وغيرها من قضايا هامة.

الجميل في الرواية أن نقرأ عن واقعنا من لسان الآخر الذي يعيش في مجتمعنا دون أن تستمع له، فالخليج يضج بجنسيات شتى من العمالة دون أن نسعى أو نحاول فهم احتياجاتها ومشاكلها، نحن لا نتحاور معها ولا نقبل منها ذلك، بل نعاملها بتجاهل كبير، وتسلب منها الحس الإنساني، وهذا العمل يوقظ فينا الحس الإنساني في التعامل مع العمالة الأجنبية التي تعيش بين ظهرانينا.


تساءلت كثيرا وأنا أقرأ ساق البامبو كم في مجتمعنا من عيسى أو هوزيه، ليس من الضروري أن يكون ابن فلبينية، لكن كم في مجتمعنا من شاب يعيش ضياع الهوية في مجتمع لا يتسامح أبدا مع نسق مخالف لما هو عليه، المجتمع الذي يرفض أبن الفلبينية بالرغم من أنه ابن الكويتي، هو ذاته يرفض الشاب المثقف المتمرد على بعض أفكاره أو عاداته أو طقوسه، رغم أنه أبن شرعي تماما لهذا المجتمع فهو عيسى أيضا ..



الخميس، 29 أكتوبر 2015

المثقف الحداثي وتحديات المرحلة

المثقف الحداثي
وتحديات المرحلة

Image result for ‫المثقف الحداثي وتحديات المرحلة‬‎



  
       منذ سنوات والساحة الثقافية المحلية تشهد حراكا ثقافيا وفكريا مميزا ويقفز إلى سطحها العديد من الأسماء الشابة الواعدة والتي باتت لا ترهب الخوض في بحث قضايا فكرية ومعرفية دقيقة متخطية العديد من التابوهات والخطوط التي كانت تعد حمراء، هذا النشاط الفكري الذي برز فيه بشكل أو بآخرالمثقف الإصلاحي أو الحداثي واجهه نشاط مميز في المقابل من المثقف المحافظ أوالتقليدي الذي أخذ على عاتقه الحفاظ على ما اعتبره ثوابت وقيم جوهرية لا يمكن السكوت عن تجاوزها، وفي المجمل شهدت الساحة نشاطا متصاعدا وإن بدى محتقنا في بعض الأحيان إلا أنه أوصل رسالة مفادها أن مجتمعنا مازال بخير على المستوى الثقافي والفكري وأنه قادر على تقديم أسماء جديدة محلقة في سماء الفكر.

وربما كان يقدّر لهذا النشاط الرائع بالتصاعد إلى مديات أعلى لولا أن خطبا ما قد وقع، فلقد دخلت المنطقة في مرحلة جديدة تكاد تكون غير مسبوقة يخشى كثير من الناس أن تكون بداية لأيام صعبة قادمة، فما قبل الدالوة ليس كما بعدها بالتأكيد، حيث وقع أول استهداف مباشر بالقتل على الهوية وهي الهوية الشيعية تحديدا، واستمر الاستهداف بنحو خمس هجمات دموية تفرقت على عام كامل.

من يظن أن هذه الحوادث ستمر دون أثر على المجتمعات المحلية فهو واهم، فالمجتمع الحي الذي شهد كل هذا النشاط الفكري والثقافي سيشهد تحولات بلا شك حتى وإن كانت بطيئة إلا أنها جوهرية.
في الأزمات العصيبة التي يقع القتل فيها على أساس الهوية فإن أفراد المجتمع يتجهون بتلقائية لتعزيز تلك الهوية والحفاظ عليها وعدم التخلي أو المساومة عليها، بل غالبا ما يرافق تلك الحالة مزيد من التأكيد والحرص على إظهارها وإبرازها، ولعلنا وجدنا الحضور الصاخب في مراسيم تشييع الشهداء بما لا تخطئه العين وهو في حالة تصاعد وغليان، كما أن الحضور الجماهيري في إحياء ذكرى عاشوراء شهد زخما أكبر عن السنوات السابقة كما لاحظ بعض المهتمين.

في هذه المرحلة التاريخية التي ربما سيتجه مزاج المجتمع نحو نوع جديد من الموجة المحافظة فإن المجتمع سينظر بمزيد من الريبة والحذر لكل دعوة للإصلاح الديني أو تجديد الخطاب الشيعي، وهنا يجدر بالمثقف الحداثي أو الإصلاحي ألا يحرص على الانتحار في وجه هذه الموجة المتصاعدة، بل إنه مدعو اليوم لطرح خطاب إصلاحي تصالحي أكثر فاعلية وواقعية.

إن المثقف الإصلاحي الذي أشعل الساحة الفكرية والثقافية بخطابه المتجاوز قادر برأيي أن يطرح صورة جديدة يمكنها استيعاب الموجة الجديدة وقيادة الحراك من جديد نحو آفاق جديدة، وهذا ممكن لمعظم وجوه الحراك الثقافي المحلي، أما القلة التي ستبقى تكرر نفس الأفكار بذات الأسلوب المتشنج فأظن أن المجتمع سيتجاوزهم وسيخبو كل البريق الذي كسبوه وسيكون مصيرهم إلى أكثر الزوايا ظلمة وقتامة.


*منشور في موقع المطيرفي بتاريخ  2015/10/28
الرابط


http://www.almoterfy.com/site/index.php?act=showNews&module=news&id=5519#.VjIM5fnoT2Y



الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

الدالوة.. عام مضى


   الدالوة.. عام مضى

Image result for ‫الدالوة‬‎


العام الهجري الذي مضى راحلاً وتصرمت أيامه كان عاماً استثنائياً على شيعة المنطقة الشرقية، بدءاً بالهجوم الدموي الرهيب على قرية الدالوة الوادعة على خد جبل القارة الشهير، مروراً بتفجيري القديح والدمام.
لقد كان لهذه الأحداث الدامية أثر مؤلم في القلوب، فلقد كانت الهجمات من الخسة والدناءة أن تهاجم الآمنين في أماكن العبادة بأبشع الوسائل وأقذر الأساليب، مخلفة قتلى أبرياء لم يرتكبوا أية جريرة تذكر.
بالرغم من أهمية الحدث وتاريخيته، إلا أن الأهم هو كيف تصرفنا وسنتصرف بعده.
لقد كان الحدث امتحانا عسيرا على المنطقة ونخبها، وكان يمكن له أن يغير مجرى التاريخ للأبد، وربما كان من الممكن أن يستدعي تطورات جوهرية في حياة الناس، ولكن ما الذي حدث؟ هل كنا على قدر المسؤولية بما يكفي؟ هل حافظنا على الدم الساخن المسفوح في مساجدنا؟
 من المدهش وليس في ذلك مبالغة أن الناس نسوا أو يكادون تلك الحوادث المؤلمة، وانشغلوا في قضايا هامشية وجدالات لا طائل من ورائها رغم أن الدم لم يجف بعد، لم يعد الناس يتذكروا عدد شهداء الدالوة، ولا يتذكرون من هو حيدر المقيلي، ولا يستطيعون تحديد تاريخ تفجير الدمام..
هكذا ببساطة تجاوزنا القضية الأهم في تاريخ المنطقة، وعدنا لنتجادل في كل قضايا العالم إلا قضيتنا نحن، وعادت الحياة لطبيعتها بعدما مننّا على الشهداء بقراءة سورة الفاتحة.
لا أريد أن أكون سوداويا لكن من المؤسف أن تفاعلنا كان مؤقتا ولحظيا وقصيرا، فلم نتوسع لتخلد ذكرى الشهداء ولم نكوّن لجانا فاعلة للتذكير بقضيتهم والمطالبة بحقهم من القتلة، ليس فقط المجرمون الذين نفذوا الجريمة، بل كل مصاصي الدماء الذين حرضوا وكفروا وشحنوا النفوس والقلوب ومهدوا الطريق لمثل هذه الجرائم البشعة.
إننا عندما نطالب بعدم نسيان الدالوة، فليس الأمر قضية بكاء ونواح، وليس من أجل شرفاء لبوا نداء الشهادة، إنما من أجل الأطفال الذين ولدوا عشية الدالوة، من أجل كل من يعيش على تراب هذا الوطن، من أجل أن نستمر في تنفس هذا الهواء ونشرب من زلال هذا الماء، فإننا إن نسينا الدالوة فذلك يعني أننا سنقبل بدالوة ثانية وثالثة لا سمح الله.
إن النضال من أجل الكرامة والعزة درب طويل يحتاج إلى صبر وتضحيات، فإن لم نتعلم من كربلاء هذا الدرس فلا قيمة ترتجى بعد ذلك.

الأربعاء، 15 أبريل 2015

مرض التصنيف

مرض التصنيف

نتيجة بحث الصور عن نختلف ولكن


تعطي المعرفة والثقافة صاحبها الوعي والبصيرة التي يحتاجها لمقابلة شتى التيارات والعواصف الفكرية التي تعبر المجال المعرفي للمجتمعات بين فترة وأخرى مخلفة آثارها الحميدة أحياناً والمدمرة أحياناً أخرى، فالمثقف المتسلح بالوعي أقدر الناس على مواجهة هكذا ظروف متقلبة، لكن المتغيرات الثقافية أصابت مجتمعنا بمرض خطير اسمه مرض التصنيف.

نعني بمرض التصنيف هو تقسيم الناس لفئات ومجموعات فكرية وثقافية قياساً على مواقفهم أو أفكارهم أو مقولاتهم، وليست المشكلة في مجرد التصنيف فهو في أساسه ممارسة علمية رصينة في مختلف العلوم والمجالات المعرفية، إنما المشكلة تكمن في أمرين اثنين:

الأول أن هذا التصنيف لا يمارس وفق معايير وأسس معرفية صحيحة، بل يغلب على ممارسي التصنيف الإنطلاق من واقعة واحدة ليتم تعميمها على كامل الخطاب الثقافي للشخص المصنف، قد تكون هذه الواقع مقالاً أو حديثاً عابراً أو كلمة قيلت في لحظة انفعال، وهذا قصور شديد من المصنف، فمن يريد التصنيف الدقيق يلزمه القيام باستقراء شامل للنتاج للمعرفي للشخص المصنف وتحليله تحليلاً دقيقاً للوصول إلى تصنيف رصين.

أما الأمر الثاني الذي يجعل من التصنيف مرض خطير، فهو حالة الإستعداء التي تتبع التصنيف، فما أن ننتهي من تصنيف عدد من المثقفين حتى نفترض أنهم أعداء تدور بينهم المعارك التي لا تنتهي والتي لا يخمد أوارها ليل نهار، وما أن يكتب شخص يصنف على تيار ما حتى يصبح لازماً على التيار الآخر الرد عليه و أخذ الثأر منه.

لو كانت هذه المعارك معارك فكرية حقيقة لما كانت محل استهجان ولكنها في حقيقة الأمر أقرب إلى الترف الفكري، والسبب في رأيي هو في غياب المشروع الثقافي الحقيقي، أو ربما غياب الرؤية الواضحة للمشروع لمن يرى في نفسه صاحب مشروع، لذا ليس من الحكمة الدخول في طريق لا تعرف معالمه جيداً وإلا فإن النتائج غير مأمونة.


دعوتي للجميع قبل أن نستعجل في طرق دعاوى التصنيف وممارسة هوايتنا المفضلة في تقسيم الناس إلى مجموعات متصارعة علينا أن نبحث عن المشاريع الفكرية والثقافية الحقيقية والعمل من أجلها وعدم الإنشغال بتصنيفات لن توصلنا إلى أي شيء.