الأربعاء، 15 سبتمبر 2021

أنماط التدين الجديد

أنماط التدين الجديد

مقدمة

يفرق علم الاجتماع الديني بين مفهومين اثنين وهما مفهوم الدين ومفهوم التدين، فالدين هو مجموعة من الأفكار العقائدية واللاهوتية والتشريعية الخاصة ضمن منظومة محددة، تسعى لإثبات حقانيتها في مقابل منظومات أخرى، وهذا المفهوم ليس مجال لعمل علم الاجتماع الديني، والمفهوم الآخر وهو التدين فهو أنماط ممارسة مجتمع ما لسلوكيات دينية من ضمن منظومة عقدية وتشريعة ما، وهنا يأتي دور علم الاجتماع الديني في فهم التدين كظاهرة اجتماعية.

وعبر التاريخ فإن نمط التدين لم يكن ثابتا في اي دين من الأديان المعروفة مهما كانت درجة ثبات المنظومة العقدية والفكرية لهذا الدين، وهذا التغير في انماط التدين هو الذي ولد مذاهب وتيارات دينية متعددة عبر التاريخ.

إن السبب الرئيسي في ظهور هذه الأنماط الحديثة هو ضعف وترهل المؤسسة الدينية الرسمية للدين وهي الجهة المكلفة لتقديم التفسير الرسمي للدين والدفاع عنه، ويتمثل في الوسط السني بدور الإفتاء والأزهر الشرف في مصر والحوزة الدينية والمرجعية في الوسط الشيعي، نتيجة التغيرات في نمط الحياة ونزوع حالة الفردانية وتمكن الفرد من شؤونه بعيدا عن نمطية الجماعات والمؤسسات.

 

اربعة نماذج من التدين الحديث:

يهمنا هنا استعراض اربعة نماذج من التدين الحديث والمعاصر والذي ظهر خلال الاربعين سنة الأخيرة، ونشير إلى أن هذه الأنماط الأربعة ليست مذاهب دينية بالشكل التقليدي للمفهوم التاريخي، وهي تعبر أنماط تدين نخبوية إلى حد كبير إذ لا تزال فاعلة في الدوائر النخبوية.

ونشير أننا في عرضنا لهذه الأنماط لا يهمنا حقانيتها من عدمها ودورنا يتلخص في رصد نمط ظاهرة التدين الحديث كظاهرة اجتماعية.

أنماط التدين الحديث:

1-    تدين ما بعد الاسلاموية:

بعد التراجع والنكسات التي تعرضت لها تيارات الإسلام السياسي التي كانت تهدف لتحقيق دولة شمولية دينية على نمط الخلافة في الوسط السني ونمط الامامة في الوسط الشيعي، وبعدما عجزت عن تقديم رؤية حديثة ومنسجمة مع تطلعات الناس ونمط الحياة الجديد، حدثت حالة من الاحباط والتراجع في شعبية الافكار الدينية المرتبطة بالمؤسسة الرسمية مما برر محاولات ايجاد نمط من التدين الجديد أو الحداثي.

يتمثل هذا التدين في مجموعة من الأفكار التي تحاول تقديم قراءة جديدة للدين دون التخلي عن الدور المحافظ والتاريخي للدين، ويمثل هذا التيار الإصلاح الديني في ايران كعبدالكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري وملكيان، وعلى المستوى العربي يمكن اعتبار محمد شحرور ومحمد اركون واحمد القبانجي ضمن هذا المجال.

وهذا النمط من التدين يقدم قراءة جديدة معتمدا على مناهج حديثة لقراءة النص الديني التقليدي، دون أن يتخلى عن النص الديني المرجعي. 

2-    تدين اسلام السوق:

ويقصد به نمط التدين الناتج عن وجود طبقة برجوازية رأسمالية جديدة في العالم الاسلامي تحاول التوفيق بين الشكل المحافظ للدين وممارسته من جهة وبين التمسك بقيم العمل والانتاج الدنيوي والتمتع بمكاسب الثروة، بل ويتعداه ليرسم صورة جديدة للتدين فهو ليس التمسك بالثوابت الدينية و مفاهيم الزهد والتقشف، بل بالنجاح الدنيوي والمالي وخلق الثروة.

وهذا الفكر اقرب إلى البروتستينية التي غيرت المفهوم المسيحي الكاثوليكي في مفهوم الخلاص من الزهد في الدنيا والترفع عن مباهجها إلى الانخراط في العمل الدنيوي واعتباره مثالا على التدين الجديد.

نجد هذا التدين بارزا عن بعض تيارات الاخوان المسلمين فيمثله في مصر خيرت الشاطر الذي كان الى جانب عمله الدعوي رجل أعمال بارز، ومن خارج إطار العمل التنظيمي لأخوان برز عمرو خالد في صورة الداعية العصري، وايضا يمثله طارق السويدان في الكويت الذي يقدم نفسه كرجل اعمال متدين ومبدئي، وفي تركيا يبرز حزب العدالة والتنمية الذي تنحدر قياداته من عائلات تجارية عريقة في البلاد، وفي ايران يحسب الراحل رفسنجاني على هذا التيار.

 

3-    تدين التصوف الجديد:

هذا المنط يسعى لبعث الروح في التصوف عن طريق تقديم صورة مثالية لشخصيات صوفية قديمة عبر وسائط ثقافية وفنية كالروايات والأعمال الأدبية والمسلسلات كما هو في رواية قواعد العشق الأربعون التي تبرز جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، وأيضا في رواية موت صغير التي تبرز ابن عربي، والعديد من الأعمال المختلفة التي تصور شخصية المتصوف بأنه انسان متعالي ومتسامي عن كل شيء ومتسامح مع الآخر إلى ابعد حد.

التصوف الجديد يختلف عن القديم في إنه لا يمارس وفق طريقة وجماعة خاصة كما في الحركات الصوفية التاريخية، ولا يوجد فيها شيخ ومريد ولا يوجد فيها تكية أو طقوس جماعية، بل هو تصوف فردي يناسب الواقع المعاشي الحالي للناس، حيث يتخلى المتصوف الجديد عن الكثير من الممارسات الدينية التقليدية ويتسامح مع جميع الناس على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والعقدية ويعتبر نفسه متعاليا عن هذه التقسيمات.

ايضا تجد رواد هذا النمط من التدين يخلط تصوفه ببعض الأفكار والممارسات المستوردة من اديان وفلسفات شرقية مختلفة كممارسة اليوغا والتأمل وعلوم الطاقة وغيرها من افكار.

 

4-    تدين الجاليات في الغرب:

واجهت الجاليات الاسلامية في الغرب مشاكل متعددة متعلقة بالهوية، افرزت مع مرور الوقت وتعاقب المعالجات المختلفة نمطا من التدين الجديد الذي يحافظ على الصورة العامة للدين في شكلها الخارجي ولكنها متأثرة بشكل كبير بالثقافة السائدة في مجتمع الهجرة.

اسلام الجاليات متعدد بتعدد أوطان الهجرة ولكنها بشكل تتميز بالتمسك بظواهر الدين وما يدل على الهوية الاسلامية كالمسجد والاسماء الاسلامية، ولكنها تقبل ممارسات أخرى بضغط الواقع المعاش كقبول علاقة الصداقة بين الجنسين دون عقد شرعي، وايضا اقتصار الصلاة على يوم الجمعة.

ذكر أحدهم أنه حضر صلاة جمعة في احد المساجد في الولايات المتحدة في العام 2002، وكان موضوعها السياسي حول موقف المسلمين  المعارض لغزو افغانستان في نهاية الخطبة دعى الخطيب للرئيس بالتوفيق وللقوات المسلحة بالنصر والظفر، هذا الخطاب المزدوج يعكس نمط التدين الذي يمارسه المسلمون في الغرب في محاولة الموائمة بين شكل تدين اسلامي تقليدي وانخراط في المجتمع المحلي. 

 

 

 ختاما :

إن رصد هذه النماذج وتحولاتها ومحاولة فهمها مبكرا قد يساعدنا في فهم مستقبل التدين في محيطنا الشرق اوسطي، حيث يستمر تراجع دور المؤسسة الدينية ويقوي دور الفرد في تحديد شكل التدين ونمطه، وبالتالي ويساعدنا في انتخاب الطرق الامثل للتعامل معها.



----

مضمون  المقالة مما استفدته من كتاب اسلام السوق للباحث باترك هايني وأفكار الاستاذ محمد الشافعي 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق