جدتي آمنة
تعتبر العلاقات الاجتماعية و ما يكتنفها من مشاعر
حالة معقدة ليس من السهل سبر غمارها و تشريحها بمبضع عقلاني رصين إذ كثيرا من
الاحيان تكون عصية على التبرير المنطقي العقلي و لذلك برع الشعراء و ليس الحكماء
في توصيفها إذ ان الشاعر أكثر قدرة على الولوج الى ذلك العالم .
علاقتي بجدتي المؤمنة آمنة شغلت حيزا كبيرا من
تفكيري بعدما فقدتها فجأة قبل ما يزيد عن الشهر ، فجدتي آمنة احتلت حيزا من حياتي
فكان وجودها متماهيا مع وجودي بشكل كبير لقد كنت أشعر بأنها جزء أصيل و طبيعي من
وجودي الذاتي و لكن عندما فقدتها أصبت بحالة تشويش فلم أعد أفهم يبدو أن شيئا
غير منطقي حدث.
في غمرة الحزن و التفكير فيما حدث ، أكتشفت أنني
لم اتصور يوما و لم أتخيل أنني سأفقدها و رغم أعتلال صحتها في الاونة الأخيرة و
مكوثها في المستشفى لفترات طويلة إلا أنني في كل مرة كنت انتظر خبر خروجها
بالسلامة و هذا ما لم يحدث هذه المرة ..
خلال السنوات الخمس الأخيرة كان ملك الموت ضيفا سنويا
على اسرتنا كما كان ثقيلا علينا و على جدتي بشكل خاص خلالها فقدت أثنتين من
بناتها و أخاها الوحيد و أبن أخاها و ابنة
عمها و رفيقة دربها ، في كل مرة كنا نجدها أكثرنا جلدا و تصبرا يعتصر الألم
قلبها فلا يظهر على ملامحها إلا التجلد و لا يجري على شفتيها إلا عبارات الرضا
بقضاء الله .
مازلت أذكر ليلة رحيل عمتي .. ابنتها.. عندما تحلقت
شقيقات الفقيدة حول الام باكيات وحدها كانت تصبرهنّ و تخفف مصابهنّ لم نر منها
جزعا لكن ألم قلبها تفجر عن مرض جعلها طريحة الفراش .
في زيارتي الاخيرة لها في المستشفى قبل اسبوع من وفاتها
أمسكت يدي بقوة و دمعت عيناها كانت تريد الخروج من المستشفى بأية وسيلة تحدث مع
الممرضة التي قالت لي أن حالتها في تحسن ، حاولت أن اسري عنها و اخبرها أن خروجها
قريب جدا لكنها كانت تتألم كثيرا .
منذ اللحظة التي وصلني خبر وفاتها و صورتها تكاد
لا تفارق ذهني بل أنني أراها بين النوم و اليقظة و تراودي الافكار أن الامر لا
يعدو كابوسا مزعجا و قد انتهى أحيانا افتح جوالي لأقرأ رسالة النعي التي وصلتني كيف تمت صياغتها و ماذا كتبوا فيها أدقق في تفاصيلها ألاحظ تاريخ الارسال و
وقت الارسال و اسم المرسل قبل أن أتنهد و أضعه جانبا .
أكثر من رأيته و قد رسمت حادثة فقد جدتي آمنة على
ملامحه آثارها هو جدي عيسى الذي كان كثير القلق عليها في مؤخرا لقد كان يعبر
عن قلقه هذا بأسلوبه البسيط و بصمت أحيانا إلحاحه على زياتها كل يوم و في أول
وقت الزيارة كانت وسيلته للتعبير عن خالص حبه و عميق قلقه كأنه كان يقول يا أم
عبدالله اياك أن تتركيني أصارع الدنيا وحدي فأنا لم أعتد أن ارى الدنيا بدونك أما بعدما فقدناها فقد تغيرت ملامح جدّي كثيرا و لا تحتاج الى سابق عهد به لتعرف
أنه فقد سنده في الحياة .
حدود الموت و الحياة تتماهى أحيانا فالالم
الخفي في أعماق القلب يجعل المتألم يقول ما الفرق الآن بينهم إلى الحد الذي يصبح
معه الموت بطعم الماء.