الثلاثاء، 8 يوليو 2014

جدتي آمنة


جدتي آمنة






تعتبر العلاقات الاجتماعية و ما يكتنفها من مشاعر حالة معقدة ليس من السهل سبر غمارها و تشريحها بمبضع عقلاني رصين   إذ كثيرا من الاحيان تكون عصية على التبرير المنطقي العقلي   و لذلك برع الشعراء و ليس الحكماء في توصيفها إذ ان الشاعر أكثر قدرة على الولوج الى ذلك العالم .

علاقتي بجدتي المؤمنة آمنة شغلت حيزا كبيرا من تفكيري بعدما فقدتها فجأة قبل ما يزيد عن الشهر ، فجدتي آمنة احتلت حيزا من حياتي فكان وجودها متماهيا مع وجودي بشكل كبير  لقد كنت أشعر بأنها جزء أصيل و طبيعي من وجودي الذاتي   و لكن عندما فقدتها أصبت بحالة تشويش فلم أعد أفهم   يبدو أن شيئا غير منطقي حدث.

في غمرة الحزن و التفكير فيما حدث ، أكتشفت أنني لم اتصور يوما و لم أتخيل أنني سأفقدها   و رغم أعتلال صحتها في الاونة الأخيرة و مكوثها في المستشفى لفترات طويلة إلا أنني في كل مرة كنت انتظر خبر خروجها بالسلامة    و هذا ما لم يحدث هذه المرة ..

خلال السنوات الخمس الأخيرة كان ملك الموت ضيفا سنويا على اسرتنا    كما كان ثقيلا علينا و على جدتي بشكل خاص  خلالها فقدت أثنتين من بناتها و أخاها  الوحيد و أبن أخاها و ابنة عمها و رفيقة دربها ، في كل مرة كنا نجدها أكثرنا جلدا و تصبرا   يعتصر الألم قلبها فلا يظهر على ملامحها إلا التجلد و لا يجري على شفتيها إلا عبارات الرضا بقضاء الله .

مازلت أذكر ليلة رحيل عمتي .. ابنتها.. عندما تحلقت شقيقات الفقيدة حول الام باكيات  وحدها كانت تصبرهنّ و تخفف مصابهنّ  لم نر منها جزعا لكن ألم قلبها تفجر عن مرض جعلها طريحة الفراش .
في زيارتي الاخيرة لها في المستشفى قبل اسبوع من وفاتها أمسكت يدي بقوة و دمعت عيناها كانت تريد الخروج من المستشفى بأية وسيلة   تحدث مع الممرضة التي قالت لي أن حالتها في تحسن ، حاولت أن اسري عنها و اخبرها أن خروجها قريب جدا  لكنها كانت تتألم كثيرا .

منذ اللحظة التي وصلني خبر وفاتها و صورتها تكاد لا تفارق ذهني  بل أنني أراها بين النوم و اليقظة و تراودي الافكار أن الامر لا يعدو كابوسا مزعجا و قد انتهى  أحيانا افتح جوالي لأقرأ رسالة النعي التي وصلتني   كيف تمت صياغتها و ماذا كتبوا فيها  أدقق في تفاصيلها   ألاحظ تاريخ الارسال و وقت الارسال و اسم المرسل  قبل أن أتنهد و أضعه جانبا .

أكثر من رأيته و قد رسمت حادثة فقد جدتي آمنة على ملامحه آثارها هو جدي عيسى   الذي كان كثير القلق عليها في مؤخرا  لقد كان يعبر عن قلقه هذا بأسلوبه البسيط و بصمت أحيانا  إلحاحه على زياتها كل يوم و في أول وقت الزيارة كانت وسيلته للتعبير عن خالص حبه و عميق قلقه  كأنه كان يقول يا أم عبدالله اياك أن تتركيني أصارع الدنيا وحدي  فأنا لم أعتد أن ارى الدنيا بدونك   أما بعدما فقدناها فقد تغيرت ملامح جدّي كثيرا   و لا تحتاج الى سابق عهد به لتعرف أنه فقد سنده في الحياة .

حدود الموت و الحياة تتماهى أحيانا   فالالم الخفي في أعماق القلب يجعل المتألم يقول ما الفرق الآن بينهم   إلى الحد الذي يصبح معه الموت بطعم الماء.  
  

هناك تعليقان (2):

  1. ألا هــل إلى طــول الـحـيـاة ســبـيـــلٌ وأنـــى هـــذا الـــموت لـــيس يــحولُ

    وإنـــي وإن أصــبحت بـالموت موقناً فـــلي أمــلٌ مـــن دون ذاك طـــويـــلٌ

    وللــدهـر ألــــوانٌ تـــروح وتـغـــتدي وإنّ نفـــوســـاً بـــيـــنهـــن تـــسيـــلُ

    ومــنــزل حــــقٍ لا مـــعــرّج دونـــــه لكلِّ امـــرئ مـــنـــهـــا إلـــيـــه سبيلُ

    قــــطعـــت بـأيـــام الـــتــعـــزر ذكـره وكـــلُّ عـــزيـــز مـــــا هـــنـــاك ذلــيلُ

    أرى عــلـــل الـــدنيـــا عـــليَّ كــثيرةً وصــــاحـبـــها حــتَّى الـــممات عليلُ

    وإنـــي لمـــشتـــاق إلـــى من أحبـــه فـــهل لـــي إلى من قد هويت سبيل؟

    وإنـــي وإن شطّـــت بــي الدّار نازحاً وقد مـــات قـــبلي بـــالفراق جـــمـيلُ

    فقد قال في الأمثال في الـــبين قـــائلٌ أضــــرَّ بـــه يـــوم الـــفراق قـــليـــلُ

    لـكلِّ اجـــتماعٍ مــن خـــليلين فرقـــة وكـــلُّ الـــذي دون الـــفـــراق رحـيلُ

    وإن افـــتقـــادي فـــاطماً بـــعد أحـمدٍ دلــــيـــلٌ عـــلـــى أن لا يـــدوم خـليلُ

    وكـــيف هناك العيش من بـعد فقدهم لـــعـــمـــرك شـــيءٌ مـــا إليه سـبيلُ

    سيُعرضُ عن ذكري وتُنســى مودتّي ويـــظهر بـــعدي للـــخلـــيل عـــديـــلُ

    ولـيس خليلـــي بالـــملول ولا الـــذي إذا غـــبـــت يـــرضـــاه ســـواي بديلُ

    ولكـــن خـــليلي مـــن يـــدوم وصاله ويحـــفظ ســـرّي قـــلـــبُهُ ودخـــيـــلُ

    إذا انقطعت يوماً من الـعيش مدَّتـــي فـــإن بـــكـــاء الـــبـــاكـــيـــات قــليلُ

    يريـــد الـــفتى أن لا يـــموت حـبـيـبه ولـــيـــس إلـــى مـــا يـــبتغيه ســـبيلُ

    ولـــيس جـــلـــيلاً رزء مـــالٍ وفــقده ولـــكـــنَّ رزء الأكـــرمـــين جـــلـيلُ

    لذلك جـــنـبي لا يـــؤاتـــيـــه مضـجعٌ وفي القـــلب من حرِّ الـــفراق غليلُ

    ردحذف
  2. عندما نفقد جدتنا فإننا نفقد بعض روحنا .... تدفن معها هناك...تأخذ جزء من حياتنا التي صحبناها فيها...الجدة هي أحد جذورنا و عندما ينقطع نصبح أكثر وهنا في مواجهة مرارة واقعنا الذي يضمحل كلما فقدنا أحد احبتنا

    ردحذف