بين القراءة والكتابة
ازدواجية فعلي القراءة
والكتابة كانت واحدة من المعضلات التي شغلت بالي طويلا، فهل على الإنسان أن يحصر
اهتمامه بالقراءة ولا يقرب الكتابة والتأليف إلا عرضاً، وهل يجب عليه اعتبار
القراءة الهم الأول ولا يجدر به أن يلق بالا للكتابة؟ أم أن التأليف والكتابة هي
خلاصة القراءة وثمرتها؟
كلا الرأيين وجيه
وجدير بالإهتمام، فهناك من يرى أن الفعل الأساسي للإنسان خصوصا المثقف هو القراءة،
فعليه أن يكون همه الأول تأسيس ذاته معرفياً قبل أن يستعجل كتابة مقالات أو مؤلفات،
فالاستعجال في كثير من الأحيان ما يكون له عواقب سلبية، وقد عاصرنا بعضها، يحث
يقوم مثقف شاب بكتابة مقال أو حتى تغريدة وهي مازلت خاطرة في ذهنه أو مجرد فكرة
جنينية لم يحن أوان وضعها، فيصدم بردود قاسية وناقدة، فيتحول الكاتب إلى خانة
الدفاع عن هذه الفكرة أو العبارة التي قد لا يكون هو ذاته مقتنعا بها تماما، فيكرس
جهده وبحثه وقراءته لإثباتها والرد على خصومه بالمزيد من العبارات والمقالات،
وتدريجيا يخسر المثقف أهم ما يميزه عن غيره، يخسر كنزه الثمين الذي يعطيه كل
البريق والتفرد، فهو يخسر مرونته الفكرية وعقله المتفتح لكل فكرة جديدة، ويغدو
مؤدلجاً لفكرة ما أو عقيدة ما بعد أن كان تنويرا متمردا.
لكن من جهة أخرى فإن
فعل القراءة والكتابة أقرب شيء بفعل الزراعة والحصاد، فكما أن الفلاح يزرع ليحصد
فإن المثقف يقرأ ليكتب، والكتابات الجيد والمميزة هي بالتأكيد نتاج قراءة جيدة ومميزة،
لذا فمن الطبيعي أن يكتب القارئ الجيد روائع الأفكار، وعليه فإن الإبتعاد عن
الكتابة هو قتل لتلك الروح المبدعة التي ولدت يوماً على صفحات كتاب ذات مساء، كما
أن فعل الكتابة الراقية هو فعل تراكمي ينمو مع الإنسان بالممارسة والتجربة وتضمر
بالتجاهل والتغافل، أضف إلى هذا كله أن الأفكار أنما تزدهر وتصقل بالكتابة
والمداورة وبالنقد والتصويب.
حملت خواطري ولجأت
لواحد من أساتذتي الذين أثق بهم وبتجربتهم في الحياة، وضعت همومي بين يديه وطلب
رأيه لأسترشد به، فكانت كلماته كبلسم على الجرح.
قال لي الأستاذ: إن
المثقف الجيد قارئ فذ وكاتب حصيف، فلا تهمل الكتابة ولكن لا تسع خلفها، بمعنى أن
الكتابة لا يجب أن تكون همك وأولى أولوياتك فكثير من المفكرين لم يؤلف سوى كتاب أو
أثنين وربما لم يؤلف مطلقاً، ولكن لا يجب تهملها وتلغيها من مسيرتك، كما يجب أن
تتنبه إلى أمر هام جدا، فحين تريد أن تكتب عليك أن تعي أن الكلمة مسؤولية لذا يجب
أن تكون صادقاً ومخلصاً لمن سيقرأ حروفك، وأيضاً لا تحرص على أن تكون واثقاً فدع
الباب مفتوحاً للتراجع حلما يثبت لك خطأ الرأي الذي تؤمن به.
ختم أستاذي كلامه
بجملة وبها أختم، قال : إقرأ ثم إقرأ ثم إقرأ ثم اكتب.