الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

الحج ... آفاق فكرية و روحية و اجتماعية

حوار حول :

الحج ... آفاق فكرية و روحية و اجتماعية



اعداد و تحرير :
عقيل عبدالله

المشاركون في الحوار :
د. صلاح الهاجري
د. علي الحمد
الشيخ جاسم الحسن
الشيخ رياض السليم
الاستاذ عقيل العليوي
السيد محمد طالع العلي
الاستاذ حسين الموسى
الاستاذ عبدالمحسن الحسين
الاستاذ صالح عساكر
الاستاذ كاظم الخليفة


للحج آفاق كثيرة و جوانب عدة يمكن من خلالها تناوله كالجانب الروحي او المعنوي الى الجانب الاجتماعي الى السياسي الى الاقتصادي الى الفقهي الى الخ..
و كل شخص يمكن ان يكون له جانبه المفضل في تناول الموضوع لذا ستكون المساحة كافية للجميع للتعبير بما يناسب المقام من افكار و معلومات ، هذا الحوار الراقي كانت ساحته قروب آراء و أصداء الواتسابي .

وله ثلاثة محاور وثلاثة أسئلة مفتاحية:

الأول: معنويا وروحيا،
كيف يمكن استثمار طاقة الحج الروحية لبعث روحي للإنسان المسلم المعاصر الذي يعاني تراجعا على مستوى المعنويات وإحباطا على مستوى الإنجازات؟

الثاني: اجتماعيا وسياسيا،
هل يمكن أن تثمر البساطة في الملبس والوحدة في المقصد والسلوك صفاءا لرؤية ضبابية، وجلاءا لهموم متراكمة، وتوحيدا لجهود مشتتة ومتضاربة؟

الثالث، اقتصاديا، كيف يمكن أن نستغل الهدي والكفارات في سد بعض حاجة أهلنا وفقرائنا في مدننا وقرانا؟


أفتتح المشاركات  د.صلاح الهاجري فقال:
 في الحج يلتقي المسلمون في ايام و اماكن محددة على اختلاف مذاهبهم و ثقافتهم ،و الكل يرى نفسه على الحق، فاذا انشغل كل طرف بتقييم عبادة الاخر
و اراد اصلاحه سيصطدم المسلمون مع بعضهم بعضا و سيكون الدين سببا للفرقه و الخلاف، اما اذا اعتقد الجميع ان الله وحده هو المقيم للعباد في عبادتهم سيكون الخلاف طبيعي و مقبول بل و سيتمنى الجميع الخير و القبول من الله برغم الخلاف و التناقض في بعض الاحكام الشرعية.

مهما عملوا هناك فروقات بين المذاهب و داخل كل مذهب و هذا نتيجة اختلاف الناس و افهامهم و بيئاتهم، و مرونة النصوص التي تجعلها تحتمل اكثر من وجه

فترك الحكم لله و الذوبان في محبته وطاعته و هو الضمان للوحدة وقبول بعضهم بعضا، و الحج هو اكبر مثال على ذلك  فتجمع للمسلمين يبين ذوبان الفروق بينهم في هذه الايام يعطينا درس كل خلاف بجانب عظمة الله صغير

ثم أنطلق الاستاذعقيل العليوي:
 في الحج ارى هناك من الفوائد الكثيرة تعود للفرد وعلى الامة ،  لو استغل الانسان وجوده في مكه وعرف كيف اتى كل شخص الى مكه لعرف قصة الكفاح والكدح التي اوصلته الى مكه ،
في الحج تتعرف على مختلف الوان واطياف المذاهب او مذهبك الذي تنتمي اليه ، لقد قابلت بنفسي  العراقيين المغتربين في امريكا واستراليا وتعرفت على اوضاعهم وكذلك ساعدني الحج في زيارة بعثات المراجع الدينيه وماهي هموم هذه البعثه ففي بعثة السيد الشيرازي مثلا تجد التوصيات من اكثر من رجل دين يجلس معك ، اتذكر في اول حجه جلسة مع سماحة اية الله سيد مرتضى الشيرازي اسدى الي النصح وقال لي فليكن هدفك نشر فكر اهل البيت ليكن حلمك طباعة مليون كتاب واورد قصة عن والده السيد المجدد رحمه كيف شجع رجل لبناني  وفعلا طبع مليون كتاب تشعر من خلال هذه الكلمات بث الروح في شخصك من خلال كلمات التشجيع ، وكذلك جلسنا في العام الذي يليه مع الشيخ ناصر الحائري من نفس البعثه وناقش اوضاع العراق واهمية شورى الفقهاء ، حقيقة البعثات اذا جلست فيها وناقشت في فكر المرجع او اهداف المرجعيه تشعر ان هناك عمل ليس فقط وظيفة البعثه توزيع كتب او احكام تعطى ذهبت ايضا لبعثة المرجع الديني سيد تقي المدرسي وذكر اهمية الحج في توحيد المسلمين وكذلك المعاناة التي يعيشها شيعة اهل البيت وماهوالدور المطلوب منهم وكان الحج شبه بورشة عمل على الفرد وعلاقته بربه وعلى مستوى الامه والهموم التي تعيشها الامه وماهو دورك كفرد او كمجموعه ان تشعر انك مسلم وهموم المسلمين تسمعها هذا وذاك تجعلك في موقف مع نفسك ماهو واجبي تجاه المسلمين ،  تأليف كتاب او تغرد او تساهم في نشر فكر بناء يهدم التطرف والعصبية التي تعيشها الامة هذا تصوري عن الحج .


السيد محمد العلي:  يشعل ومضة ضوء فيقول :

الحج .. شهر الصلح

يقول تعالى (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)
أشهر الحج .. توحي لنا بالتصالح مع الذات ومع الآخرين .. هي سلام نفسي وتسليم الذات لبارئها جل وعلا ومن باب آخر مسالمة وصلح مع الآخرين بالابتعاد عن الجدال المقيت والسباب واللغط الذي لا طائل منه.

- الحج شهر الوحدة والتوحد

يقول تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)

مع كل الاختلافات وكل الخلافات اعمال الحج واحدة وإن اختلفت المسميات هنا وهناك .. اللبس واحد والتكبيرات واحدة المكان والزمان.. الأصوات تتعالى .. لبيك اللهم لبيك .. الكل عبيدك يا رب متساوون تحت بساط رحمتك .... لنتعرف أن مشتركاتنا ونقاط التقائنا أكثر مما نختلف حوله...

- الحج .. إخلاص

يقول تعالى ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)

الحج نداء إلهي .. وإستجابة من العبد ليضع نفسه في ميزان الإخلاص .. فلا يجدك ربك إلا تلبيه مخلصا له لا توازيه بغيره .. ففي كل حركاتك وسكناتك تعبر عن اتصالك به تعالى .. حين تطوف فإنك تتعلم أن تكون وتعيش في الساحة الإلهية لا حول أحجار تفرغها من الروحية وإنما هي رمزية لتكون مع الله وله .. وحين تسعى تتفكر في مسعاك لدنياك وآخرتك لمن وفيما ولماذا؟!.. حين ترمي الجمرات فأنت تخاصم وترمي آثامك وما فسد من أخلاقك لتصلحها لترمي عداواتك وبغضائك.. حين تلبس لباس العيد فأنت تتلبس بلباس المحبة ولباس العلم.. وهكذا في كل حركاتك وأفعالك..

 د.علي الحمد ينسج رؤيته للحج فأتى تعليقه بـقوله:
  الحج، كما أراه، هو رحلة بحث عن الله.

فهناك من يبحث عنه في طقوس الحج، في التحقق وإعادة التحقق من النية، في عد أشواط الطواف، في الهرولة بين الأضواء الخضراء، في عد الحصيات وملاحقتها، في سؤال الشيخ عن كل تفصيل صغير، في اتصال منسق الحملة مؤكداً الذبح قبل التقصير، وفي القلق الذي يصاحب طواف النساء، وما أدراك ما طواف النساء.

وهناك في الطرف الآخر من يبحث عن الله في تزاحم الحجاج وتدافعهم، في ابتهالاتهم ودموعهم، في صراخ الأطفال المحمولين على أكتاف آبائهم، في عرق الشباب الذين يدفعون عربات أمهاتهم، في قرصات بعوض عرفات، في النوم بلا نوم في طرقات منى، في كل متر مربعٍ من الأرض أضحى سريراً لجسدٍ منهك، في كل كيسٍ قماشي جمع مدخرات شيخ فقير، في الشعر المتطاير في يوم النحر، في هدير الجمرات حين تصطدم بالصخر، في ابتسامة الحجاج عند إتمام مناسك حجهم، وفي عودتهم محملين بالهدايا التي اشتروها والحكايا التي سمعوها والإيمان الذي سرقوه في غفلة عن شياطينهم.



أما تعليق الاستاذ حسين الموسى فكان :

بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى:(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [سورة الحج : 27] تأتي أهمية الحج كونه
 تجمعاً كبيراً ومحفلاً رائعاً لكافة أصناف البشر، أبيضهم وأسودهم، غنيهم وفقيرهم،صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، في لباس واحد وأماكن موحدة،  لا يُرى فيها أي ميزة لأحد على أحد، وفي هذا إظهار لمعنى المساواة الحقيقية التي يدعو لها الدين الإسلامي الحنيف ويحث عليها، إذ في هذا المحفل لا يحس الفقير بفقره، ويتذكر الغني حال الفقير ويستشعر مأساته، ويتناسى الكل كل أشكال الفروق التي عهدوها في الأيام الماضية، فلا ميزة للون على لون ولا ميزة لعرق على عرق ولا لقبيلة على قبيلة، والكل هناك سواسية كأسنان المشط، والكل يضج بالتهليل والتكبير. لن نجد في غير هذا المحفل من المحافل العالمية الإظهار الحقيقي لمعنى المساواة، فما سوى الحج لن تجد إلا الفروق الواضحة والجلية. استطاعت فريضة الحج وعلى مر العصور والأزمنة أن تؤكد للبشرية أن الإسلام هو دين المساواة والعدالة وليست الأنظمة الوضعية والديانات المشوهة - أي الديانات التي تم العبث بأصولها من قبل معتنقيها-، فنجد أن تلك الأنظمة والديانات وإن ادعت المساواة لا تخلو من جانب التفضيل لفئة على فئة، ولعل ما نشهده من تعديات على حقوق الدول الأخرى من قبل مدعي المساواة والعدالة خير دليل على ذلك.



يقدم د.صلاح الهاجري وصفة أبداعيه فيقول:
موسمين حج في السنه الواحدة

يقال انه تم استشارة خبراء اجانب  مختصين في تنظيم المؤتمرات و المهرجانات للاستفادة من خبراتهم في التغلب على الازدحام. و صعوبة الحركة و النقل و التدافع والتزاحم، وبعد دراسة المشكلة كانت توصية الخبراء باقامة موسمين حج في السنة الواحدة!!
برغم غرابة هذا الحل الا انه موجود فعلا!!
كيف؟ 
فقط باحترام الخلافات المذهبيه اولا في تثبيت الهلال، هذا يجعل نصف الحجاج يقفون في عرفه و النصف الاخر يقف في اليوم التالي و هكذا بقيه المناسك
ثم لا ننسى الخلافات الفقهية الباقية بالنسبه لرمي الجمرات قبل الزوال او بعده وفي الليل للنساء و اصحاب الاعذار
و كذلك الاختلاف في احكام  الطواف و السعي ، واماكن التوسعة .
اذا تعدد المذاهب و الاجتهاد يوسع الاحكام ويسهلها ويعطي فرصة اكبر للعبادة و تذوق طعمها

كل المطلوب هو احترام التعدد المذهبي و الاجتهادي وترك الحكم لله وحده

أحد المشاركين علق على كلامه فقال:
رائع جدا د صلاح ما تفضلت به. فعلا لو يفعل هكذا أمر لما احتجنا ان نشنع على فقهائنا بانهم لا يقومون بتيسير احكام الحج لأن هذا الأمر ليس بيد المرجع حتى يغير رايه في اي من مسائل الحج .يقينا المرجع ليست من هواياته أن يتفنن في تعقيد الأحكام الشرعية لأني مؤمن بإنهم يعلمون بأن الله يحب أن يأتى برخصه كما ياتى بعزائمه ولكن هذا ما توصل اليه المرجع من دليل.



ينقل لنا عقيل عبدالله  تجربة مميزة فكتب :اليوم عصرا استمعت في المذياع لبرنامج يتكلم عن التجربة الماليزية في الحج.
كنت اعرف ان ماليزيا تحوز على لقب افضل بعثة حج .
لكن لم اكن اعلم ان الحاج الماليزي يكسب ماديا من الحج .. كيف؟
اليكم المفاجأة..
في ماليزيا اسست الحكومة صندوق باسم"صندوق الحاج"
مهمة هذا الصندوق استلام مبالغ شهرية بسيطة من كل مشترك ، يقوم الصندوق باستثمار هذه المبالغ وفق الشريعة الاسلامية ، بعد عدة سنوات يصبح المشترك مستحق لرحلة حج مجانية وفق عملية قرعة سنوية، كما يكون المشترك مستحق لأرباح سنوية سواءا ذهب الى الحج او لم يذهب و يمكنه الاستمرار في استلام الارباح حتى بعد الحج.
يقول احد المسؤلين على الصندوق نحن نطبق المفهوم القرآني "ليشهدوا منافع لهم "
فالنفعة تعم المجتمع ككل سواءا من يذهب للحج ام لا.
ايضا في ماليزيا مسجد الولاية وهو اكبر مساجدها ، و هو بحق مؤسسة رائدة ، عندما زرت ماليزيا التقيت باحد الماليزيين قال لي ان الحاج يجب ان يحضر ستة عشر فصلا دراسيا في المسجد ليكون مؤهلا للحج.
افكار ابداعية رائعة نحتاج لمثلها في مجتمعاتنا .


الاستاذ عقيل العليوي: يفتح ملف الحملات الاقتصادية المعروفة بأسم –حملات الرصيف - ، فيقول :

حملات الرصيف لذوي الخبرة وليس المبتدئين لمن يريد تحقيق خمسة حجات متتالية لاننسى ورود الرويات لتكرار الحج خمس مرات ورى بعض لذا على من يريد عمل هذا المستحب العظيم مراعاة مصروفاته ويذهب حملات الرصيف وواقعا حملات الرصيف تعتمد على خبرة الحج فهو من يختار مبيته اي وقت وهو من يخطط لاعمال الحج حتى الهدي بامكانه التعاون مع الجمعية دون الحملة لذا مميزات حملات الرصيف اتخاذ القرار بيد الحاج عطفا على ذلك انا بنفسي جربت حملة الرصيف صراحة اريح بكثير من الحملات الاخرى ،  لعدم وجود العوائل وتحمل مسؤليات العوائل وتاخيرهم وايضا ميزة الرصيف الاحكام الشرعية للحجاج تجد معرفة بالاحتياطات وتتعرف على احكام جديد من المعلم والحاج التنوع المرجعي بعض الحملات للاسف تقتصر على مرجعيه واحدة او مرجعيتين اما الرصيف خصوصا القطيف تجد ماشاء الله من المراجع تتعرف على التنوع المرجعي دون تعصب أو تشنج في ذكر الحكم لوجود التنوع طعبا هذا في الحملة التي ذهب معها ولا اعمم




الاستاذ عبدالمحسن الحسين: يعلق بقوله

الحج يمثل رحلة العبد إلى خالقة بهدف اللقاء به حين تسمو روحه فوق ملذات الدنيا لترتقي  إلى هدف أرقى من آداء النسك الظاهرية للحج، مستلهما من الحج الإبراهيمي أعلى درجات الحب والتسليم حيث حين اختلى إبراهيم عليه السلام بربه ليرى أن قمة الحب والتضحية من أجل لقاء الحبيب هي التضحيةبذبح ابنه إسماعيل عليه السلام قرباناً لله مخلصاً بالعبادة لله وحدة لاشريك له مستسلما له الأمر، كما قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءرَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِرَبِّهِ أَحَدًا).

نعم أن الحاج حين ينوي تلك الرحلة يرى سمو النفس العرفاني المتعلقة بالخالق عزا وجل، مستصغرا نفسه الذليلة الحقيرة التي كانت تعيش حالة من الكبرياء وعدم الاعتراف بالذنب ليقوم مستصغراً لها بالاستحلال من الآخرين وطلب السماحة وبراءة الذمة من التبعات المالية والأخلاقية اتجاه العباد لأنه يعلم عظم هذه الشعيرة وعظيم من سيستضيفه ويقابله، ليذهب إليه صافيا من كل التبعات التي قد تضعف ذلك الاستقبال من مضيفه.

أن الحاج أول ما يستفتح حجة بطرق باب من أبواب الله حين يذهب إلى المدينة ليزور النبي الأكرم ليجدد له البيعة والعهد على أنه لازال على دينه وعلى صراطه المستقيم مقراً لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة، ليستغفر عنده بنية صادقة يذرف دموع التذلل للنبي الأعظم عليه السلام ليشفع له عند الله في ذنوبه التي اقترفها في حق الله مستلهما من قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك َفَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا).

أن الحاج حين يذهب للميقات من اجل الإحرام يبدأ بحالة العروج الروحي حين يقوم بأعمال الإحرام، فحين يغتسل للإحرام ظاهر بدنه يستشعر بذلك غسل النفس من متعلقات الدنيا التي قد تشغله عن لقاء حبيبه الذي ترك كل شيء من أجل لقاءه، وحين يلبس الإحرام متخلياً عن تلك الثياب الغالية الجميلة ومن كل زينة أعتاد أن يتزين بها أو عطر كان يتعطر به ليعيش حالة من التجرد المادي لتسمو الحالة المعنوية والحقيقة الفطرية للنفس.
ومن المعاني السامية للإحرام هو حين يتذكر المؤمن أن نهاية حياته ستكون بثوب مكون من قطعتين قماش لا مخيط فيهما ولا زينة وان رائحته ستكون أنتن من رائحة العرق أيام الحج، وأن مصير هذا الجسد المتغطرس المتكبر المتعالي سيكون طعاماً للدود، وليتذكر من وحدة الإحرام وحدة النهاية وكما يتساوى الجميع على اختلاف أعراقهم وألوانهم ولغاتهم في زيي واحد وشكل واحد تذوب كل الفوارق كذلك في نهاية الحياة تتحد في الكفن والقبر.

بعد هذا التخلي عن ملذات الدنيا والتجرد من كل ما يتعلق بها في صورة الإحرام يتجه الحاج إلى لقاء المتيم بحبه وهو ربه المتكبر العظيم ليلتقيه في بيته الحرام، ليعيش حالة من الروحانية يستلذ بها روح العبودية لله ليتسامى كما تتسامى الملائكة المحدقين بعرش الله عز وجل. ومن هنا يتجلى عشق الطائف المتذلل لله بالدعاء، كالعاشق الذي يطوف حول بيت محبوبته، ففي طوافه الإبراهيمي تتساقط كل الأصنام المادية أو المعنوية ليبقى طواف القلب المتعلق بالحضرة الربوبية.

بعد التذلل بالطواف وتجلي الألطاف الربانية والشعور بالقرب من لقاء ربه وهو في حالة الانتظار يكون مشغولاً في حالة سعي وسير في طريق طويل مستشعراً بفقره لله عز وجل قال الأمام الصادق عليه السلام: ( ما من بقعة أحب إلى الله من السعي لأنه يذل فيها كل جبار ). ففي السعي تردد في معالم الرحمة الإلهية، والتماس للمغفرة الربانية وهذاما نلاحظه من كثرة الأدعية في موقف مهيب يحب المولى أن يسمع ضجيج الدعاءمن عباده.

بعد أن طهر العبد نفسه من دنس الدنيا وتخلى عن مغرياتها وهزم النفس ووساوسها وطاف متذللاً ببيت ربه وسعى للقائه في عناء مخلصاً العمل له وحده لا شريك له يحين اللقاء في يوم عظيم أشبه ما يكون بيوم المحشر وهو يوم عرفة ليقف بين يدي ربه معترفاً بذنوبه لينكشف له الحجاب فيدخل في حرم الله الأمنع فيكون طريقاً الى بيته الأقدس.
 عن معاوية بن عمار قال (سألت أبا عبد الله ( ع ) عن عرفات لم سميت عرفات ؟ فقال : إن جبرائيل ( ع) خرج بإبراهيم صلوات الله عليه يوم عرفة فلما زالت الشمس قال له جبرائيل: يا إبراهيم اعترف بذنبك و اعرف مناسكك ، فسميت عرفات لقول جبرائيل ( ع) : ( اعترف فاعترف ).

ففي عرفات يتفاعل وجدان الحجيج في نشيج ملائكي حيث ازدحام الناس و ارتفاع الأصوات بمختلف اللغات كصورة النشر و الحشر ، حيث ترى المؤمنين في صور شتى ما بين متضرع و باك و داع . كل ذلك يذكرك بموقف الوقوف بين يدي الله عز اسمه في عرصات القيامة . ولا ننسى ذلك الدعاء العظيم للإمام الحسين عليه السلام يوم عرفه الملئ بالمعاني العرفانية والروحية والعبادية. ففي هذا اليوم يكون فيه الشيطان مدحوراً مكسوراً مخذولاً، وأن الله يباهي الملائكة بعبادة فعن مولانا زين العابدين ( ع ) : ( أما علمت أنه إذا كان عشية عرفة برز الله في ملائكته إلى سماء الدنيا ، ثم يقول : انظروا إلى عبادي ، أتوني شعثا غبرا ، أرسلت إليهم رسولا من وراء وراء ، فسألوني ودعوني أشهدكم أنه حق علي أن أجيبهم اليوم ، قد شفعت محسنهم في مسيئهم ، وقد تقبلت من محسنهم فأفيضوا مفغورا لكم ، ثم يأمر ملكين فيقومان بالمأزمين هذا من هذا الجانب و هذا من هذا الجانب ، فيقولان : اللهم سلم سلم . فما تكاد ترى من صريع و لا كسير ) .

للوصول إلى حقائق المعرفة على الحاج أن يكون ظنه قويا بالله و بأنه سيبلغه مراده ، فهو يوم شريف و موقف عظيم و هو ( يوم شرفته و كرمته وعظمته ، نشرت فيه رحمتك و مننت فيه بعفوك ، و أجزلت فيه عطيتك ، و تفضلت به على عبادك ... ) و من شرف هذا اليوم أن روي عنهم ( ع ) : ( إن من أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفات ثم ظن أن الله لم يغفر له ). فلا تذهل عن طلب حقائق المعرفة الإلهية و اطلبها في هذا الموقف بالنظر إلى ذلك بين ربك .. ( إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك ، و هذا حالي لا يخفى عليك ، منك أطلب الوصول إليك ، و بك استدل عليك ، فاهدني بنورك إليك .. واسلك بي مسلك أهل الجذب .. ).

وبعد هذا التجلي لعظمة الله يوم عرفة والتشرف بلقائه لقلول الإمام علي عليه السلام: (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان). ونيل المغفرة والرحمة يحاول الحاج أن يحافظ على هذه المكتسبات بمحاربة الشيطان ورجمه ليبدي موقفه من كل شر وكرهه له سواءً شراً معنوياً أو قلبياً كالنفس الأمارة بالسوء أو الشيطان الظاهري العدو للإنسان. إن رمي الجمار هو تجسيد لمعنى الاستعداد و التأهب نحو مواجهة العدو الحقيقي للإنسان، مما يصعد روح المقاومة و الجهاد في نفس المسلم لمواجهة الشيطان والصمود أمام مزالقه وكبح النفس الأمارة بالسوء.

الحج شعيرة إلهية مقدسة تسمو بالنفس وترقى بها إلى أعلى مراتب القيم الإنسانية والأخلاقية، لتجعل من الإنسان مخلوق مرتبط بالله سبحانه وتعالى محققاً الهدف الذي من أجله خلق.ففي الحج يسمو الإنسان بروحه من التعلق بالدنيا وملذاتها إلى العروج بهانحو الكمال السامي الذي يجعل منه مخلوقاً يمثل خلافة الله في أرضه. ففي الحج  فرصة كبيرة حيث يستطيع الإنسان أن يغير من سلوكه وتصرفاته التي طالما كان غافلا عن إصلاحها بسبب ارتباطه وتعلقه القوي بالدنيا وملذاتها.


السيد محمد العلي: يتحدث عن الجانب الاجتماعي في الحج فيقول:
قال تعالى (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)
الحج مؤتمر عالمي للمسلمين وفرصة لا تعوض لتبادل الروئ والخبرات حين يستثمر لطرق أبواب الفكر والعقل بعقد الندوات وورش العمل، كما أنه منطقة تبادل موروثات وتقاليد بين الشعوب.. أضف على ذلك دمج حركة الفرد بحركة الأمة حين يستشعر بأنه جزء لا يتجزأ منها عليه أن يعطيها لتعطيه ويبنيها لتحتضن أخوته وأبنائه.


الشيخ رياض السليم: يعلق معتذرا :
الحج لا يمكن اختصاره في سطور قليلة
الحج هو تجسيد محسوس لكل المعاني الأسلامية المتسامية.

الحج يحكي قصة الإنسانية وصراعها مع الشيطان.
قصة البحث عن الحيقية و العودة إلى الفطرة.
قصة صراع الانبياء مع الباطل بدأ من آدم وصولا إلى إبراهيم واسماعيل وصولا إلى النبي محمد.

الحج هو إعادة للإنسانية إلى رشدها وتذكيرهم بحقيقة انفسهم وتذكيرهم بحقيقة الدنيا الزائلة وتذكيرهم بحقيقة العبودية و الربوبية.

الحج تجربة روحية رائعة تعيد تأهيل الإنسان ليكون قادرا على إدارة الحياة وإدارة نفسه فإذا استطاع التحكم في نفسه أيام الحج باجتناب محرمات سيمتلك القدرة لادارة حياته بعد الحج.

الحج هو فرصة ذهبية لتقوية راوابط الأمة ببعضها هو فرصة للسياحة في الأرض و التعلم و الاعتبار.
وفرصة للتجارة وتحريك الاقتصاد.
الحج هو قلب نابض في جسد الإنسانية وركن أساس في شريعة الإسلام.

الشيخ جاسم الحسن:  يسرد شيئا من من ذكريات الحج ، يقول :
عندما كنت في الحج أخذ أحد مسؤولي الحملة الميكروفون يدور على حجاج الحملة للتعريف بهم ، حتى انتهى إلى حاج صغير الجرم مسن ، فعرف بنفسه ، من إحدى قرى الأحساء ، متقاعد من القطاع العسكري برتبة مرموقة (بالنسبة لطائفتنا) فسأله الحجاج عن حجته الأولى ، فذكر أنها كانت قبل عشرات السنوات ، لعلها خمسون أو أربعون ، فقيل له:  هل الحج اليوم أفضل أم حج ذلك الزمان؟ فقال بل حج ذلك الزمان أفضل ، فكان السؤال المرتقب : ولماذا؟؟ فقال:  كنا نصلي الصلوات الخمس في الحرم وليس مثل اليوم نصليها في السكن ، هنا قال بعض الطلبة : لكنك الآن تصليها جماعة ، فقال : الصلاة في الحرم أحسن ، فأجابه الطلبة مرة أخرى الجماعة أفضل فقال الرجل مغضبا منفعلا:  أنا عندي أحسن ، فسرت في الحجيج ضحكة متعددة الألوان ...فيما تفاجأ الطلبة بالرد ... موقف كثير الدلالات



أخذ الحماس الاستاذ صالح عساكر فنقل تجربته فقال: تجربتي لا أظنها ستضيف لنقاشكم المثمر الجميل
الا أني أرغب في المشاركة
ولو بهذا الموقف الذي أريد أن أكون فيه واقعيا نوعا ما..

تقديما للواجب على المستحب عرضت على من عرض علي الزواج تحجيجي قبل تزويجي، على نحو الهدية..فوافقت
ونال أجر تزويج أعزب وأجر تحجيج مو حاج!!
كان ذلك سريعا  لم ينتابني أي شعور ..ركبت الحافلة بليدا ، انطلقت بنا وأنا أفكر
متى سنعود!!
يشوش تفكيري تهنئات  الزملاء ودعائهم لبعضهم البعض..

يتخلل الدعاء والتهنئة إتفاقيات
بينهم شبيهة بالمؤامرات على اﻵخرين أو هي أشبه بخطط الحروب النظامية
اختاروا من يكون في المقدمة ومن يكون في الوسط ومن في المؤخرة، وتعاهدوا على أن لا يسمحوا بإختراقهم
وحددوا الوقت اللازم ﻹنهاء المهمة على أن يكون بأسرع وقت ممكن..

كان همي اﻷول أن لا أكون معطلا للمجموعة فكنت ملتزما بالوقت المحدد حين توقف الحافلة لقضاء حاجة أو ﻷي أمر ما، متحينا مترقبا فرصة للتدخين..

فدائما أدخن على عجل حتى
جاءت زحمة الغسل لﻹحرام والتجادل على من هو اﻷول حينها فقط تمكنت من احتساء الشاي وأنا أدخن..

أخذتنا الحافلة قريبا من الحرم نزلنا وكل زعيم مجموعة يذكر طاقمه باﻹتفاق والتعاهد..
سبقت خطواتهم خطواتي وأنا أحاول أن ألمح ظهورهم وأراقب تمايل أكتافهم ﻷعرف الباب الذي سيدخلون منه فلابد لي منهم..

دخلت خلفهم  رأيتهم يؤشرون ويتدارسون الساحة جلت بعيني على المكان ﻷفهم خطتهم

فوقعت عيني على الكعبة
العظيمة الشريفة..
ذهبوااااا
وتسمرت أنا في مكاني
لاأستطيع إدارة عيني
وأصبحت رجلاااااااااي
بالكاد تحملاني
قذف ما دخل قلبي..!!
اعترتني رجفة ورعشة
ذقت طعم دموعي

هي ليست كما يصفون
هي فوق مايصفوا
هي لا تشبه تلك التي خلف
الشاشه
هي أبهى وأنضر..
هي أروع

وأنا أنظر إليها شاهدت
اﻷنبياء يرعونهااااا
شاهدت الفيلة يموتون
قبل أن يصلوا إليها
شاهدت السيول تعجز
عن جرفها
شاهدتها تخرس
المكاء والتصدية
شاهدتها وهي تتحول
الى مشنقة لﻷصنام
شاهدتها وهي
تتحدى المنجنيق
شاهدت الحسين
يصونها ويحميها

كعبة يحل الحسين من إحرامه
حتى لا تهتك حرمتها، حري بنا
أن نفهم معناها ونستشعرهاااا
بشكل أعمق

لابد لصمودها وشموخها على مر العصور من سر في ذلك
وعلينا إكتشافه...!!

نظرتي اﻷولى للكعبة حولت حجتي من إلى...!!

أرى من اﻹجحاف بحق الكعبة أن يكون ذكرها موسمي، لما لها من رمزية لمعاني إسلامية جديرة بأن تكون قوانين تنظم حياة البشر..

التوعية بأهداف ومقاصد الحج ليس لها نصيب

فهم روايات غفران الذنوب بتأدية فريضة الحج أدى الى تهاون البعض بأرواحهم خاصة كبار السن

يصعب البعض طقوس الحج بحجة الحج اﻹبراهيمي!!

و عن تجربته  يقول الاستاذ عبدالمحسن الحسين:
 كنت في أول حجة لي، وكنت أصلي في الحرم بالمدينة وكان شخص يراقبني ويرصد حركاتي، فكلما غيرت مكاني غير مكانه بجنبي، كنت خائفا من ذلك الشخص ومراقبته لي، اطلت البقاء في الحرم لعله يمل ويتركني لكن دون فائدة، غادرت الحرم متجها الى سكن الحجاج وهو يتبعني، زاد خوفي منه، فقلت في نفسي لعله من المباحث او من الشرطة السرية ومشتبه بي..ومع الخوف التفت اليه وقلت له اخي اراك تراقبني وتتبعني خطوة بخطوة ما الأمر...

وبكل برودة يجاوبني انا معكم في الحملة وما أدل اروح السكن...طيب ليش ماقلت لي انك معانا بدل هذه المراقبة...وبكل برودة يرد علي شدراني انك ماتعرفني  أني معاكم في الحملة..

 الشيخ رياض السليم يقدم مجموعة من الاقتراحات فيقول :
 الحج موسم عبادي ثقافي اقتصادي اجتماعي ولكننا للاسف لم نستفد منه بالشكل المطلوب.
وكثير من حملات الحج لدينا دون المستوى المطلوب.
وهنا سأذكر بعض الاقترحات علنا نحقق الغاية المرجوة من الحج
1-  تشكيل حملة نخبوية ويكون عددها صغير من اربعين نفر كمثال وهذا يتيح المجال لأن يستفيدوا من بعضهم أكثر وبامكانهم التنقل بسهولة بين المشاعر ويمكن بسهولة زيارة بعثات الحج واستضافة شخصيات راقية من مناطق أخرى.
2- تشكيل معرض دائم في مكة أو المدينة  للكتب والمؤلفات الأحسائية ليتم تعريف الآخرين بالأحساء و بثقلها العلمي و الثقافي.
3- عقد لقاءات دورية بين اللجان الثقافية في حملات الحج ليتم الاستفادة من تجارب بعض وطبعا الكثير من حملات الحج لا يوجد بها لجنة ثقافية.
وطبعا قد عقد في الأحساء لقاءات بين حملات الحج أكثر من مرة وبعض اللقات كانت بإشراف الحوزة ولكنها كانت لقاءات عابرة ويغلب عليها الطابع التجاري و التوصيات القانونية.





و هنا ينطلق الاستاذ كاظم الخليفة فيطرح تجربة مهمة للسيد حيدر الاملي على شكل مقالين فيقول:

 [١] "الحج العرفاني.. السيد حيدر الآملي نموذجاً"

{"أول بيت وضع للناس ببكة مباركاً" يكون إشارة الى صدره الذي يحيط به كمكة بالمسجد، والمسجد بالكعبة، لأن الكعبة بمثابة القلب والصدر بمثابة المسجد والبدن بمثابة الحرم أو مكة.. ثم يدخل مسجد الصدر الذي هو المسجد الحرام حول القلب الذي هو الكعبة الحقيقية، ويطوف به سبعة أشواط، أعني يطلع عليه سبع مرات ليعرف حاله ويرتفع عنه حجابه الذي هو أخلاقه الذميمة وأفعاله الردية المعبرة عنه بسبعة حجب}.
السيد حيدر الآملي.


 الصوفية (العرفان)، والتي هي في مؤداها رؤية تنظر من خلالها الذات الى العالم بفهم مختلف عن التدين الرسمي والمقنن في كتب الفقه، حيث تحتل الروح مساحة كبيرة فيها باعتبارها القبس الالهي، وفي الحج تكون البيت الأول الذي يلتف حوله الكون كما يقول عبد القادر الجيلاني:{طُفْ بِحَانِي سَبْعاً ولُذْ بِذِمَامِي **  وَتَجَرَّدْ لِزَوْرَتِي كُلَّ عَامِ.
أَنَا سِرُّ الأَسْرَارِ مِنْ سِرِّ سِرِّي ** كَعْبَتِي رَاحَتِي وَبَسْطِي مُدَامي.
أَنَا فِي مَجْلِسِي أَرَى العَرْشَ حَقاً **  وَجَميعَ الأَمْلاكِ فِيه قِيَامِي.
كُلُّ قُطْبِ يَطُوفُ بالبَيْتِ سَبْعاً ** وَأَنَا الْبَيْتُ طَائِفٌ بِخِيَامِي.)
 هذا الفهم للشعائر الدينية  قد يحجب عنا طبيعة فهم الصوفية لشعيرة الحج وذلك عندما اشتهر في القرن الرابع الهجري مفهوم "الحج القلبي"، وهو الطواف المجازي بعالم الملكوت من خلال القلب باعتباره مركز القبس الالهي وتموضعه في الروح، والاستغناء عن الحج المادي والقصد إليه.
تلك الرؤية لم تتسيد المشهد الصوفي والعرفاني بأكمله، حيث الشهود الفعلي لمواسم الحج هي من تصدرت الواجهة الرسمية للطرق الصوفية الرئيسية.

السيد حيدر الآملي في القرن الثامن الهجري،  وفي كتابه "أسرار الشريعة وأطوار الطريقة وأنوار الحقيقة" لا يكتفي بالحج القلبي، بل يضيف للحج المادي صبغة روحية عميقة تتناول جميع فقراته بمعاني روحية حتى وكأنه يرتفع عن عالم المحسوسات.

فكما هو الإنسان مركب من ثلاثة أجزاء: البدن والنفس والعقل، يقدم السيد الآملي الدين باعتباره يناظر أقسام الإنسان حيث ظاهر الدين وهي الشريعة والتعاليم والضوابط الدينية، والطريقة أي السلوك الى الله وهي باطن الدين، أما الحقيقة فهي باطن الباطن "عبارة عن فناء العبد في الحق، والبقاء به علما وشهوداً وحالا لا علماً فقط.. وقيل علم اليقين ظاهر الشريعة، وعين اليقين الإخلاص فيها، وحق اليقين المشاهدة فيها".


الاستاذ كاظم الخليفة:

 [٢] "الحج العرفاني.. السيد حيدر الآملي نموذجاً"

إذن، حج أهل الحقيقة، كما هو في الشريعة،  يبدأ بالإحرام وهو "أن يحرم على نفسه مشاهدة عالم الجسمانيات وما يتعلق به من اللذات". وعند توجهه للكعبة المادية فعليه "التوجه الى الكعبة الحقيقية التي هي النفس الكلية ويطوف بها سبعة أشواط، ليحصل بكل شوط معرفة كل فلك من الأفلاك السبعة".
ثم يتوجه الى مقام ابراهيم "الذي هو مقام الوحدة والحضرة الواحدية المعبرة عنها بالعقل الأول والروح الأعظم ويصلي فيه ركعتي الشكر بوصوله الى تلك الحضرة، والركعتان عبارة عن فنائه أولاً عن عالم الظاهر وثانياً عن عالم الباطن وما اشتمل عليهما من المخلوقات والموجودات حتى نفسه".
السعي بين الصفا والمروة في مفهوم السيد الآملي متسق مع ما قبله من مفاهيم حيث هو السعي بين "عالمي الظاهر والباطن ليطلع عليهما بسعيه واجتهاده"
حسب الترتيب الرسمي لشعيرة الحج، يرى السيد الآملي أن الإحرام للحج بعد العمرة يكون بالتوجه الى الكعبة مرة أخرى الى مشاهدة النفس الكلية والاطلاع على حقائقها "ليأخذ إحرام الحج من عندها تحت ميزاب العقل على الترتيب المعلوم".
للتوجه الى عرفات معنى يؤكده الآملي باعتباره معرفة النفس والعقل واتحادهما لمعرفة الحقيقة "وليس وراء هذه الحضرة حضرة أخرى إلا حضرة الذات الممتنع الوصول إليها لأحد".
الرجوع الى منى هو في حقيقته رجوع الى البدايات كما فهمها الآملي من مقولة أبن الجنيد عندما سئل عن النهايات "ثم يرجع الى منى عالم الكثرة الذي هو عالم المشاعر الإلهية والمناسك الربانية.. وينظر اليهم ويشاهدهم على أنهم مظاهر إلهية ومشاعر ربانية.. ثم يشتغل بأداء المناسك فيه، أي في منى، عالم الظاهر من الرمي والذبح والحلق".
 يرمي الجمار في العقبة الأولى والتي هي الدنيا ومتاعها سبع طبقات، رمي عرفان وليس رمي عيان.. رميا للدنيا لا يمكن الرجوع إليها والى ملذاتها فيما بعد، وهذا ما يمكن تأكيده لاحقاً لشعيرة النحر حيث "يذبح نفسه مرة أخرى ذبحاً لا تكاد تعيش أبداً، أي بالحياة الدنيوية المجازية، لأنه صار حياً بالحياة الحقيقية المشار إليها في قوله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم}.
حلق الرأس عند السيد حيدر هو "حلق رأس النفس عن محبة الدنيا ومتاعها حلقاً لا يكاد يرجع إليها أبداً رجوع نفساني لا غير. أو محو الموهوم مع صحو المعلوم".
الرجوع الى طواف الحج هو "رجوع من عالم الفناء الى عالم البقاء بعد الفناء"، أي يطلع على الكعبة مرة أخرى بسبع توجهات وأطوار،  وهي المعبر عنها بقوله {خلقكم أطواراً} ليحصل بذلك التصرف في سبعة أقاليم الأرض وسبعة أقاليم الأفلاك المعبرة عنهم بالملكوت والجبروت".
الصلاة مرة أخرى في مقام إبراهيم هي "الصلاة في مقام الوحدة الحقيقية، وركعتي الصلاة هما صلاة العيدين الأضحى والفطر".
الرجوع الى منى تالياً، هو رجوع الى عالم الكثرة في المراتب الثلاث: المعدن والنبات والحيوان، ويكون فيه  ثلاثة أيام من الأيام الإلهية لتكميل الغير، فإنه "مقام النهاية".